اميرالنجف- .
- الجنس : عدد المساهمات : 206
نقاط : 21476
تاريخ التسجيل : 28/10/2012
من طرف اميرالنجف الأربعاء نوفمبر 14, 2012 8:16 pm
التاويل
التاويل والتفسير مصطلحان قرآنيان نطق بهما القرآن، ثم استعملهما المسلمون بعدذلك، ولقد اصبح التفسير والتاويل علمين من اكثر علوم القرآن اهمية، واثرا في الفكروالتشريع والمعارف الاسلامية.
قال اللّه تعالى: (...ولا ياتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن تفسيرا)((179)) وقال تعالى: (...ذلك خير واحسن تاويلا)((180)). (...واما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله الا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)((181)).
(هل ينظرون الا تاويله يوم ياتي تاويله...)((182)).
التاويل في اللغة:
عرف اللغويون معنى التاويل في اللغة، واوضحوه بشكل محدد ودقيق، نذكر من تلك التعاريف:
قال الفيومي في المصباح المنير «آل الشيء (يؤول) (اولا) و (ملا) رجع».
وقال ابن الاثير في النهاية: (والتاويل: هو من الشيء يؤول الى كذا، اي رجع، وصاراليه...).
وقال الراغب الاصفهاني: (التاويل من الاول، اي الرجوع الى الاصل. ومنه الموئل للموضع الذي يرجع اليه. وذلك هو رد الشيء الى الغاية المرادة منه، علما كان او فعلا،ففي العلم نحو:
(وما يعلم تاويله الا اللّه والراسخون في العلم...) وفي الفعل كقول الشاعر:وللنوى قبل يوم البين تاويل) وقوله تعالى: (وهل ينظرون الا تاويله يوم ياتي تاويله) اي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه.
وقوله تعالى: (ذلك خير واحسن تاويلا) قيل احسن معنى وترجمة((183)). ولقد ساهم علم التاويل مساهمة فعالة واساسية في فهم آيات الاعتقاد، لاسيماالمتعلقة بصفات اللّه تعالى.
وقد حدثت على مر العصور معركة فكرية حامية حول منهج التاويل وما انتجه من فكرومعرفة، وعرض الفكر الشيعي لنقد حاد من خصومه، بسبب اهتمامه بالتاويل،واعتماده اساسا في حفظ التوحيد نقيا من التشبيه والتجسيم.
ومن الواضح تاريخيا ان التاويل منهج علمي اسلامي عام وليس منهجا شيعيا او معتزلياخاصا، كما يتصور البعض. هو وسيلة تعبيرية من صميم الطبيعة اللغوية، لذا فمنهج التاويل فرضته حقائق علمية ولغوية، وليس منهجا مرتجلا عبثيا. ومن دراسة وتحليل معنى وتعريفات التاويل، وما ورد في الكتاب والسنة فيه، والوقوف على مصاديقه، وموارد انطباقه، والنتائج الفكرية التي افرزها هذا المنهج، نستطيع ان نستنتج الاتي:
1- ان التاويل اسلوب معرفي عام يستعمله العقل البشري لاكتشاف الغوامض ممايشير اليه اللفظ او الحدث او الرمز، فقد اعتاد الناس ولاسباب فنية ان يعبروا عن مقاصدهم احيانا بطريقة لاتكشف الا بالتاويل، كما ان بعض الافعال والحوادث الصادرة عن الانسان او الحيوان او النبات او الجماد انما هي رموز تكشف عن حقيقة غير مصرح بها في ذلك الفعل او الحدث، واستنتاجها هو التاويل.
2- ان التاويل هو منهج نطق به القرآن، وبالتالي فهو منهج مشروع، لو احسن استخدامه وتطبيقاته بعيدا عن المحاذير التي حذر منها القرآن بقوله: (...ابتغاء الفتنة).
3- ان طبيعة البيان القرآني حوت المحكم والمتشابه، كما نص القرآن على ذلك، وان المتشابه يحتاج فهمه في كثير من الاحيان الى التاويل والى رده الى المحكم.
4- ان هناك معان عقيدية ترتبط بالذات الالهية، وبعالم الغيب وهي منزهة عن المادية والحسية، لابد من تفهيمها الانسان، وذلك التفهيم يقتضي التعبير عنها بالفاظ لغوية،كصفة الحب والعلم والحياة والسمع والبصر واليد والكرسي والاستواء والغضب والارادة والمكر والخديعة والكراهية والاسف والسخط والرضا... الخ وصف اللّهسبحانه نفسه بها.
والمتلقي حين يتعامل مع تلك الصفات تعاملا ظاهريا، وفق اللفظ الظاهري، فانه يقع في الشرك، ويفهمها من خلال فهمه للصفات الانسانية، فلا يفرق بين مصاديق تلك الصفات، فبعضها، حسب دلالتها الحسية، تعبر عن صفات انفعالية كما في عالم الانسان النفسي والانفعالي كصفة المكر والخديعة والغضب.
اما حين يوصف بها الخالق العظيم فيجب تنزيهه عن مشابهة الخلق، وعن كل قبيح،فهو سبحانه وصف نفسه بقوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ودعا في موارد عديدة من كتابه الكريم الى التسبيح، واكد ان كل مافي هذا الوجود من عوالم انما هو مسبح يشهد بتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، فليس علمه كعلم المخلوقين، ولا حبه وارادته وغضبه ورضاه، كالذي يحدث في النفس الانسانية،وليس مكره وخديعته كالصفة الاخلاقية الذميمة عند الانسان، وليس بين الحقيقتين الا الاشتراك اللفظي دون المعنوي، فمعنى المكر الذي وصف اللّه به نفسه سبحانه، هوايقاع المجرمين في حبائل جرائمهم، من حيث لايشعرون.
وحين يستعمل القرآن تلك الالفاظ لوصف التعامل الالهي مع الانسان انما استعملهالانها ادوات لتفهيم الفكرة للانسان، والتي تعين على ادراك صفات الذات والافعال الالهية ادراكا تحدده ضوابط التنزيه ونفي المشابهة، وان من ضوابط التنزيه هو التاويل اي حمل الالفاظ على المعاني غير المنطبقة على المعاني الحسية المالوفة في عالم الانسان، وبيان المقصود القرآني منها، وفق ضوابط لغوية. واسس قرآنية دالة على ذلك.
5- ان من مقتضيات التاويل في القرآن الكريم هو ان اللغة العربية لغة غنية بالمجاز،وقد زخرت الايات الكريمة بالمجاز الذي ينطلق من الاستعمال الحسي ليعبر عن المجرد المعنوي، فكلمة اليد واليمين والوجه والعرش والكرسي، التي استعملهاالقرآن في وصف الباري، عز ذكره، بها نفسه فقال: (يد اللّه فوق ايديهم) (والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (... اينما تولوا فثم وجه اللّه) (وكان عرشه على الماء) .(وسع كرسيه السماوات والارض) ان كل تلك المعاني انما هي معان مجازية، فاليد في عالم الانسان مثلا اسم لتلك الجارحة الحسية، وبما انها اداة القوة والاحسان وغيرها من الافعال كني بها عن الاحسان والقوة، فقيل (يد اللّه فوق ايديهم) اي هو المهيمن والمتفوق عليهم.
ومن المفيد هنا ان ننقل آراء المفسرين من مختلف المذاهب الاسلامية ليتضح لنا ان علم التاويل منهج اسلامي عام اولا، وثانيا هو طريقة موضوعية افرزتها طبيعة اللغة العربية، وضرورة لتفهيم المعنى المجرد بطريقة حسية، وليس منهجا تحميليا، لذا فان التحميل ليس تاويلا انما هو عبث وقول بغير علم، هاجمه القرآن بقوله:
(واما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله).
والمقصود بابتغاء تاويله. ابتغاء حمله على ما لا يحتمله النص، بل هو تحميل وتحكم من المؤول، بغرض الفتنة والتحريف.
التاويل في المصطلح: ولاهمية التاويل واثره في الفكر الاسلامي فقد حظي بالدراسة والمناقشة من قبل العلماء المختصين بعلوم القرآن فاهتموا به، ودققوا في تعريفه،ودراسة نتائجه، فعرف بعضهم التاويل بالتفسير ولم يفرق بينهما، في حين راى آخرون ان من لم يميز بين التفسير والتاويل لم يعرف من علوم القرآن شيئا، وليس هذافحسب، بل واختلفت عباراتهم في تعريف التاويل، وتحديد حقيقته.
وفيما يلي نستعرض بعضا من تلك التعاريف:
قال السيوطي (911 ه): (هو ما ترك ظاهره لدليل)((184)).
ثم قال: (والتاويل انما يقبل اذا قام عليه دليل، وكان قريبا)((185)). اما البعيد فلا، كتاويل الحنفية قوله تعالى: (فاطعام ستين مسكينا) ستين مدا على ان يقدر مضاف... ووجه البعد: اعتبار مالم يذكر، وهو المضاف، والغاء ما ذكر وهوالعدد...)((186)).
وعرف الزركشي (794 ه): التاويل بقوله: (...فكان التاويل صرف الاية الى ما تحتمله من المعاني)((187)).
ثم قال: (وقيل: اصله من الايالة، وهي السياسة، فكان المؤول للكلام يسوي الكلام،ويضع المعنى في موضعه)((188)).
وعرفه الطبرسي (القرن السادس) بقوله: (والتاويل رد احد المحتملين الى ما يطابق الظاهر) ثم قال: (وقيل: التفسير كشف المغط ى، والتاويل انتهاء الشيء ومصيره، ومايؤول اليه امره، والمعنى ماخوذ من قولهم عنيت فلانا، اي قصدته، فكان المراد من قولهم عنى به كذا، قصد بالكلام كذا((189)).
وعرفه ابو طالب التغلبي بقوله: (والتاويل تفسير باطن اللفظ، ماخوذ من الاول، وهوالرجوع لعاقبة الامر. فالتاويل اخبار عن حقيقة المراد...).
وعرفه الشهيد الصدر بقوله: (التاويل جاء في القرآن بمعنى مايؤول اليه الشيء، لابمعنى التفسير، وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى، لا تفسير اللفظ،اي على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معينة)((190)).
وعرفه العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان بقوله: (انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية، من حكم او موعظة، او حكمة وانه موجودلجميع الايات القرآنية، محكمها ومتشابهها، وانه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالالفاظ، بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ،وانما قيدها اللّه سبحانه بقيد الالفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب. فهي كالامثال تضرب ليقرب بها المقاصد ، وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع، كما قال تعالى: (...والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم)((191)).
ثم عرفه بقوله: (... ان المراد بتاويل الاية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الاية،سواء كان مخالفا لظاهرها او موافقا، بل هو من قبيل الامور الخارجية، ولا كل امرخارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تاويلا له، بل امر خارجي مخصوص نسبته الى الكلام نسبة الممثل الى المثل، والباطن الى الظاهر)((192)).
ومن قراءة التعاريف الاخيرة الثلاثة يتضح لنا ان التاويل هو عبارة عن بيان الحقيقة الخارجية للشيء، كبيان المقصود بقوله تعالىوسع كرسيه السماوات والارض) بان الكرسي، كناية عن الملك والسلطان، فالحقيقة الخارجية للكرسي في هذه الاية هي الملك والسلطان، وليست هي الكرسي المادي المالوف في عالم الانسان، فهو تعبير مجاز، وليس تعبير حقيقة.
منهج التفسير في مدرسة اهل البيت:
لقد تعددت مناهج تفسير وفهم القرآن، وظهرت مدارس وآراء ومذاهب مختلفة في الصف الاسلامي، كالمنهج الظاهري، والمنهج الباطني، والمنهج الاثري والتفسيراللغوي، والتفسير بالراي والمنهج المتعدد العناصر... الخ.
وكان لهذا التعدد اثره ونتائجه السلبية المختلفة الناتجة عن الاتجاهات غير السليمة في معظم تلك المناهج، ومن ابرز ما نتج عن ذلك من آثار سلبية، هو الجمود والتحجرالفكري، والتوقف في فهم القرآن، وتجميد دور العقل والنمو الفكري تارة، وتحميل القرآن آراء وقناعات المفسر تارة اخرى، والشطط في فهم القرآن تارة ثالثة.
ولقد برز منهج علماء اهل البيت(ع) في فهم القرآن منهجا مستقلا متوازنا يقوم على الاسس العلمية التي حددها القرآن ذاته والمؤهلة لفهم القرآن، وتطوير العقل البشري وتنميته، وتحقيق الاصالة والنقاء اذا ما تفاعلت جميعها في عمل المفسر لتوصل الى فهم القرآن فهما سليما، اذا ما استكمل المفسر استيعاب تلك العناصر، وتوفرت له مادتها. وابعد عمله عن الذاتية والقصور الذاتي.
ومع كل ذلك فان النتائج التي يتوصل اليها المفسر المجتهد تبقى اجتهادا قابلا للنقدوالتمحيص، ومحاولة لفهم المحتوى القرآني بالقدر المتيسر للمفسر.
وللتعريف بتلك العناصر فلنرجع الى كل من الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي، وهمامن اعلام الفكر الامامي، ومن اعاظم المفسرين (فالتبيان) للشيخ الطوسي و (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي يعتبران من اعظم مراجع التفسير عند الشيعة الامامية، وماامتازا به من عمق ودقة ونقاء، بل ويعتبر مجمع البيان مدرسة في علوم القرآن واللغة، ومرجعا فريدا في هذا المجال للمسلمين جميعا.
فلنقرا اذا ما كتبا في منهج التفسير المعتمد في مدرسة اهل البيت(ع).
ومما يزيد هذا المنهج وضوحا، هو تطبيقهما لهذا المنهج، واشادة تفسيريهما على اساسه.
قال الشيخ الطوسي ملخصا منهج التفسير الامامي بقوله:
(والذي نقول به: ان معاني القرآن على اربعة اقسام:
احدها: ما اختص اللّه تعالى بالعلم به، فلا يجوز لاحد تكلف القول فيه، ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى:
(يسالونك عن الساعة ايان مرساها قل انما علمها عندربي لا يجليها لوقتها الا هو...)((193)) ومثل قوله تعالى: (ان اللّه عنده علم الساعة...)((194)) الى آخرها. فتعاطي معرفة ما اختص اللّه تعالى به خطا.
وثانيها: ما كان ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها، عرف معناها، مثل قوله تعالى: (...ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه الا بالحق...)((195)).
ومثل قوله تعالى: (قل هو اللّه احد)((196)) وغير ذلك.
وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا. مثل قوله تعالى: (اقيمواالصلاة وآتوا الزكاة...)((197)) ومثل قوله:
(وللّه على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا...)((198)) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده...)((199)) وقوله: (والذين في اموالهم حق معلوم)((200)) وما اشبه ذلك فان تفصيل اعداد الصلاة وعدد ركعاتها،وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه الا ببيان النبي(ص) ووحي من جهة اللّه تعالى. فتكلف القول في ذلك خطا ممنوع منه،يمكن ان تكون الاخبار متناولة له.
ورابعها: ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن ان يكون كل واحدمنهما مرادا. فانه لا ينبغي ان يقدم احد به فيقول: ان مراد اللّه فيه بعض ما يحتمل الا بقول نبي او امام معصوم بل ينبغي ان يقول: ان الظاهر يحتمل لامور، وكل واحد يجوزان يكون مرادا على التفصيل. واللّه اعلم بما اراد.
ومتى كان اللفظ مشتركا بين شيئين، او ما زاد عليهما، ودل الدليل على انه لا يجوز ان يريد الا وجها واحدا، جاز ان يقال: انه هو المراد.
ومتى قسمنا هذه الاقسام، نكون قد قبلنا هذه الاخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تاويل الاي جملة.
ولا ينبغي لاحد ان ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا، او يقلد احدامن المفسرين، الا ان يكون التاويل مجمعا عليه، فيجب اتباعه لمكان الاجماع، لان من المفسرين من حمدت طرائقه، ومدحت مذاهبه، كابن عباس، والحسن، وقتادة ومجاهد وغيرهم. ومنهم من ذمت مذاهبه، كابي صالح والسدي والكلبي وغيرهم.هذا في الطبقة الاولى.
واما المتاخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه، وتاول على مايطابق اصله، ولا يجوزلاحد ان يقلد احدا منهم، بل ينبغي ان يرجع الى الادلة الصحيحة: اما العقلية، اوالشرعية، من اجماع عليه، او نقل متواتر به، عمن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد خاصة اذا كان مما طريقه العلم، ومتى كان التاويل يحتاج الى شاهد من اللغة، فلا يقبل من الشاهد الا ما كان معلوما بين اهل اللغة شائعا بينهم.واما طريقة الاحاد من الروايات الشاردة، والالفاظ النادرة، فانه لايقطع بذلك، ولا يجعل شاهدا على كتاب اللّه، وينبغي ان يتوقف فيه ويذكر مايحتمله، ولا يقطع على المراد منه بعينه، فانه متى قطع بالمراد كان مخطئا، وان اصاب الحق، كما روي عن النبي(ص) لانه قال تخمينا وحدسا، ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة. وذلك باطل بالاتفاق)((201)).
وقال الشيخ الطبرسي ملخصا المنهج الامامي ومتوافقا مع الشيخ الطوسي، فيما حدده من العناصر المعتمدة في التفسير:
((واعلم ان الخبر قد صح عن النبي(ص) وعن الائمة القائمين مقامه(ع) ان تفسيرالقرآن لا يجوز الا بالاثر الصحيح، والنص الصريح، وروت العامة ايضا عن النبي(ص) انه قال من فسر القرآن برايه فاصاب الحق فقد اخطا، قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالراي، كسعيد بن المسيب، وعبيدة السلماني، ونافع وسالم بن عبد اللّه،وغيرهم، والقول في ذلك ان اللّه سبحانه ندب الى الاستنباط واوضح السبيل اليه،ومدح اقواما عليه فقال: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
وذم آخرين على ترك تدبره، والاضراب عن التفكر فيه، فقال:
(افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها).وذكر ان القرآن منزل بلسان العرب فقال: (انا جعلناه قرآنا عربيا)، وقال النبي(ص) ((اذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه، فما وافقه فاقبلوه، وماخالفه فاضربوا به عرض الحائط)) فبين ان الكتاب حجة، ومعروض عليه، وكيف يمكن العرض عليه، وهو غير مفهوم المعنى. فهذا وامثاله يدل على ان الخبر متروك الظاهر فيكون معناه ان صح ان من حمل القرآن على رايه، ولم يعمل بشواهد الفاظه،فاصاب الحق، فقد اخطا الدليل. وقد روي عن النبي(ص) انه قال: ((القرآن ذلول، ذووجوه، فاحملوه على احسن الوجوه)) وروي عن عبد اللّه بن عباس انه قسم وجوه التفسير على اربعة اقسام: تفسير لا يعذر احد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها،وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعرفه الا اللّه عزوجل، فاما الذي لا يعذر احد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن، وجمل دلائل التوحيد، واما الذي تعرفه العرب بلسانها، فهو حقائق اللغة، وموضوع كلامهم، واما الذي يعلمه العلماء فهوتاويل المتشابه، وفروع الاحكام. واما الذي لايعلمه الا اللّه، فهو ما يجري مجرى الغيوب، وقيام الساعة، واقول ان الاعراب اجل علوم القرآن فان اليه يفتقر كل بيان، وهو الذي يفتح من الالفاظ الاغلاق، ويستخرج من فحواها الاعلاق.
اذ الاغراض كامنة فيها، فيكون هو المثير لها، والباحث عنها، والمشير اليها، وهو معيار الكلام الذي لايبين نقصانه ورجحانه حتى يعرض عليه، ومقياسه الذي لا يميز بين سقيمه ومستقيمه، حتى يرجع اليه، وقد روي عن النبي(ص) انه قال اعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه. واذا كان ظاهر القرآن طبقا لمعناه، فكل من عرف العربية والاعراب عرف فحواه ويعلم مراد اللّه به قطعا.
هذا اذا كان اللفظ غير مجمل يحتاج الى بيان، ولا محتمل لمعنيين او معان، وذلك مثل قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه الا بالحق) وقوله: (والهكم اله واحد) وقولهولا يظلم ربك احدا) واشباه ذلك.
واما ما كان مجملا لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا، مثل قوله سبحانه: (اقيمواالصلاة وآتوا الزكاة) (وآتوا حقه يوم حصاده) فانه يحتاج فيه الى بيان النبي(ص) بوحي من اللّه سبحانه اليه فيبين تفصيل اعيان الصلوات، واعداد الركعات، ومقاديرالنصب في الزكاة، وامثالها كثيرة الشروع في بيان ذلك من غير نص وتوقيف ممنوع منه. ويمكن ان يكون الخبر الذي تقدم محمولا عليه.
واما ما كان محتملا لامور كثيرة، او لامرين، فلا يجوز ان يكون الجميع مرادا بل قد دل الدليل على انه لا يجوز ان يكون المراد به الا وجها واحدا، فهو من باب المتشابه لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد فيحمل على الوجه الذي يوافق الدليل، وجاز ان يقال انه هو المراد وان كان اللفظ مشتركا بين معنيين، او اكثر، ويمكن ان يكون كل واحد من ذلك مرادا فلا ينبغي ان يقدم عليه بجسارة، فيقال ان المراد به كذا قطعا، الا بقول نبي او امام مقطوع على صدقه، بل يجوزان يكون كل واحد مرادا على التفصيل، ولا يقطع عليه، ولا يقلد احد من المفسرين فيه الا ان يكون التاويل مجمعا عليه، فيجب اتباعه لانعقاد الاجماع عليه، فهذه الجملة التي لخصتها اصل يجب ان يرجع اليه، ويعول عليه، ويعتبر به وجوه التفسير، ومااختلف فيه العلماء من نزول القرآن والمعاني والاحكام.
وقد بين السيد الخوئي منهجه في التفسير قائلا: (ولابد للمفسر من ان يتبع الظواهرالتي يفهمها العربي الصحيح فقد بينا لك حجية الظواهر او يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح، فانه حجة من الداخل، كما ان النبي حجة من الخارج، او يتبع ما ثبت عن المعصومين(ع) فانهم المراجع في الدين، والذين اوصى النبي (ص) بوجوب التمسك بهم فقال: «اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا» ((202)).
الخلاصة:
ومن قراءة وتحليل ما ثبته الشيخ الطوسي والطبرسي والسيد ابو القاسم الخوئي وغيرهم نكتشف بوضوح ان منهج التفسير في مدرسة اهل البيت(ع) يعتمد العناصرالاتية جميعها لاكتشاف مراد اللّه تعالى من كتابه، وفهم معانيه ودلالاته ومعارفه،فهي:
1- التفسير بالاثر الوارد عن النبي(ص) او ائمة اهل البيت(ع) وان ما اثر عنهم(ع) من تفسير وبيان قرآني، هو المرجع عند الاختلاف في فهم القرآن. وان هناك معان قرآنية،لايمكن تحصيلها الا عن طريق النبي(ص) او الامام(ع).
2- التفسير بالاعتماد على اللغة: فان القرآن نزل ببيان عربي يفهمه من عرف العربية معرفة بمستوى لغة العصر الذي نزل فيه الوحي.
واعتماد العنصر اللغوي يمكن المفسر من استخراج المعاني القرآنية التي لا اجمال فيها، ولا يحتمل معنيين او عدة معان كما ذكر الطبرسي ذلك وهو ما صرح به ابن عباس بقوله:
(وتفسير تعرفه العرب بكلامهما).
3- التفسير بالاعتماد على العقل: واعتماد العقل في التفسير ملتزما بما اثر عن النبي، وبعدم تجاوز البيان اللغوي الدال على المراد لهو منهج علمي يساهم باثراء العلم،ومعرفة وفتح آفاق الفهم والاستنباط من خزين معارف القرآن ما تحتاجه البشرية على امتداد عصورها، وان افضل اداة لاكتشاف هذا الخزين الفريد هو العقل الملتزم.ويؤيده مااستدل به العلماء من قوله تعالى: (افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها).
وبعد ما مر من تعريف بالتفسير نستطيع ان نلخص الاعمال التفسيرية التي يمارسهاالمفسر بالاتي:
1- تفسير الالفاظ القرآنية الغريبة: مثل قوله تعالى: (وجعلوا القرآن عضين) وقوله تعالى: (كاسا دهاقا) وقوله تعالى: (جاءت الصاخة) فتفسير المفردات: «عضين، ودهاقا، والصاخة» وفهم معناها في اللغة وسيلة لفهم معنى الاية واكتشاف مضمونها.
2 -تفسير معنى الاية المفردة: وهو المرحلة الثانية من التفسير والقادرة على اعطاء المعنى المحدود بحدود الاية.
3- التفسير الموضوعي: وهو المنهج الذي يقوم على اساس دراسة الايات ذات الصلة بموضوع جميعها، كوحدة موضوعية، يكمل بعضها البعض الاخر، فمثلا عندما يرادفهم قضية المال، او الحكم في القرآن، او مسالة الطلاق، او حقوق المراة، او التوحيد،تقوم الدراسة على اساس تجميع الايات ذات الصلة بالموضوع ودراستها كوحدة موضوعية متكاملة لاجل الخروج باحكام القرآن ومفاهيمه التي تعطينا صورة كاملة عن ذلك الموضوع.
فالايات عندما تجمع وتدرس ضمن وحدة موضوعية، نستطيع ان نفهم الرؤية القرآنية، والنظرية الاسلامية المتكاملة في ذلك الموضوع.
تفسير القرآن بالقرآن وكما تفسر السنة القرآن الكريم، فان القرآن يفسر بعضه بعضا، واللجوء الى بعض الايات في فهم وتفسير آيات اخرى هو منهج علمي سليم، وقد وضع الامام علي(ع)هذا المنهج بقوله:
«القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض»((203)). ومن امثلة تفسير القرآن بالقرآن هو تفسير الامام علي(ع) لقوله تعالى: «وحمله وفصاله ثلاثون شهرا» فسرها بجمعها مع قوله تعالى: (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين)، فاستخرج من القرآن من الاية الاولى والثانية ان اقل مدة للحمل هي ستة اشهر.
وان الرجوع الى آيات من القرآن لتفسير آيات اخرى مبدا اساس من مبادئ صيانة المعاني القرآنية، وحمايتها من التحريف والتزييف، لاسيما في مجال العقيدة والفكر،فالايات المتحدثة عن صفات اللّه وافعاله وعلاقة فعل الانسان بفعل اللّه تعالى:
كيات الهدى والضلال يفسر بعضها بعضا. فالاية الكريمة: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) اساس لتفسير الايات التي حاول البعض ان يستفيد منها فكرة التشبيه والتجسيم، كقوله تعالى: (يد اللّه فوق ايديهم) وقوله سبحانه: (الرحمن على العرش استوى) فمن دلالة: (ليس كمثله شيء) نفهم ان معنى (يد اللّه) ومعنى (الاستواء)ليس معنى تجسيديا، فاللّه منزه عن مشابهة الخلق.
وبالاعتماد على الايات الكريمة: (انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا)((204)).
او قوله: (وهديناه النجدين) وقوله: (لا يكلف اللّه نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)((205)).
او قوله: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ان اللّه سريع الحساب)((206)).
او قوله: (ان تكفروا فان اللّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر اخرى...)((207)).
بالاعتماد على احدى او اكثر هذه الايات نستطيع ان نفهم معنى قوله (فان اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء)((208)).
وامثالها من الايات التي فسرت من قبل البعض تفسيرا خاطئا، فسرت باسناد الاضلال الى اللّه سبحانه، بشكل جبري نافية لارادة الانسان واختياره لفعله، وهو ما يتناقض وعدل اللّه سبحانه، فهذه الايات وكثير امثالها تصف الانسان بانه حر مختار، وهويجازى بما كسبت يداه، وان اللّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر، لذا اءولت آيات الهدى والضلال تاويلا سليما يتناسق والايات الاخرى ذات العلاقة بالموضوع.
وكتفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم × صراط الذين انعمت عليهم...)بقوله تعالى: (ومن يطع اللّه والرسول فاولئك مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا)((209)).
فان الاية الثانية تبين المقصود بقوله تعالى: (صراط الذين انعمت عليهم).
وقد ذكر السيوطي هذا المنهج بقوله: (من اراد تفسير الكتاب العزيز طلبه اولا من القرآن، فان اعياه ذلك طلبه من السنة، فانها شارحة للقرآن وموضحة له)((210)).
التفسير وخبر الاحاد خبر الواحد:
ويراد به الخبر الذي لم يحصل منه القطع بثبوت مؤداه((211)). مما اجمع العلماء عليه هو ان مؤدى خبر الاحاد الذي لم يحتف بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه او الموجبة للاطمئنان اليه هو الظن، ثم اختلفوا في اعتبار الخبر الذي لايحتف بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه او الاطمئنان اليه. فذهب فريق الى وجوب العمل بخبر الاحاد هذا، ويقود هذه المدرسة الشيخ الطوسي(رحمه اللّه)، وهو مااستقر عليه العمل عند علماء الشيعة الامامية، مرجعين حجيته الى ورود ما يفيد القطع بوجوب العمل به من الشارع، واستدلوا لذلك بادلة من الكتاب والسنة وغيرهما.
قال الشيخ الطوسي(رحمه اللّه) معبرا عن هذا الراي: (والذي اذهب اليه ان خبرالواحد لا يوجب العلم، وان كان يجوز ان ترد العبادة بالعمل به عقلا، وقد ورد جوازالعمل به في الشرع، الا ان ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها)((212)).
ثم يوضح موجب حجية خبر الواحد فيقول: (من عمل بخبر الواحد فانما يعمل به اذادل على وجوب العمل به، اما من الكتاب او من السنة والاجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم)((213)). ويؤيد ذلك فريق من اعاظم العلماء امثال العلا مة الحلي الذي صرح بذلك بقوله: (خبرالواحد هو ما يفيد الظن، وان تعدد المخبر، وهو حجة في الشرع خلافا للسيدالمرتضى ولجماعة)((214)). اما المدرسة الثانية فيقودها السيد المرتضى، ويؤيده ابن زهرة والطبرسي وابن ادريس وغيرهم، وهي المدرسة التي انكرت حجية خبر الواحد، وبالتالي اسقطت جوازالاعتماد عليه، والرجوع اليه.
قال السيد المرتضى(رحمه اللّه): (لابد في الاحكام الشرعية من طريق يوصل الى العلم...) الى ان قال: (ولذلك ابطلنا العمل في الشريعة باخبار الاحاد، لانها لا توجب علما ولا عملا، واوجبنا ان يكون العمل تابعا للعلم، لان خبر الواحد اذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز ان يكون كاذبا) ((215)). وهكذا تتشخص امامنا المعركة العلمية حول خبر الاحاد غير المحفوف بالقرائن،فالكل مجمعون على انه يفيد الظن.
غير ان فريقا من العلماء آمن بوجوب العمل بخبر الاحاد هذا لورود الادلة القطعية على العمل به. وهذا يعني جواز الاعتماد على خبر الاحاد في التفسير بعد الوثوق بصدق راويه.
وينبغي ان نشير هنا الى ان خبر الاحاد اذا تعارض مع الكتاب العزيز سقطت قيمته، لانه غير مشمول بدليل حجية خبر الاحاد. فالكتاب اساس لاثبات صحة الرواية وعدمها.
قال الفقيه السيد محمد باقر الصدر(رحمه اللّه): «ان هذه روايات معارضة للكتاب الكريم الدال على انه نزل تبيانا لكل شيء وهدى وبلاغا، والمخالف للكتاب من اخبارالاحاد لايشمله دليل حجية خبر الواحد، كما اشرنا سابقا»((216)).
وقد وردت روايات عديدة تامر بعرض الروايات على كتاب اللّه للتاكد من صحتها،نذكر منها:
ما جاء عن الرسول(ص): «ايها الناس ماجاءكم عني يوافق كتاب اللّه فانا قلته، وماجاءكم يخالف كتاب اللّه فلم اقله»((217)). وقال(ص): «ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه»((218)). ولعل من موارد التفسير هو تخصيص عموم القرآن وتقييد مطلقه، بخبر الاحاد، وهوليس من التعارض مع القرآن، لامكان الجمع العرفي بين الدلالتين بين دلالة الخبر والظاهر القرآني كما افاد العلماء بذلك.
التفسير بين الذاتية والموضوعية ان مسالة التعامل مع النص القرآني، واكتشاف ما يختزن ويشع به من معنى ومراد،تفسيرا او تاويلا او اظهارا، هي من اهم مسؤوليات الجهد العلمي الذي دعا اليه القرآن تحت عنوان التفكر والتدبر، وفهم معنى القرآن، او فقهه او تاويله، او استنباط محتواه.
وبما ان القرآن مصدر بقاء الشريعة والقانون الاسلامي، ومقياس الضبط وتنظيم التفكير، وضع العلماء القواعد الاساسية، والمنهج العلمي المنظم لاستكشاف محتوى الخطاب القرآني.
وان من اخطر ما يهدد التعامل مع القرآن وفهم معناه، هو الذاتية، والمسلمات القبلية التي يحملها المفسر والباحث في القرآن، وبالتالي يعمل هؤلاء المتعاملون مع القرآن على فرض آرائهم ومعتقداتهم وتحميلها على القرآن الكريم، بل ترى المفسروصاحب الراي الكلامي او الفلسفي او غيرهما، يعرض رايه ونظريته في بعض الاحيان ثم ياتي بالاية ليسند بها ما يعتقده، او يفكر به، او ما يريد اثباته، وليس هذا تفسيرا، ولا رجوعا للقرآن، ذلك لان التفسير هو اكتشاف ما في آي القرآن، لذا جرت هذه الاتجاهات الى العبث بالمعنى القرآني والتحريف لمحتواه. ذلك لانه اخضاع المحتوى القرآني للاتجاهات الذاتية.
وفي البيان النبوي الشريف توضيح كاف للفصل بين الذاتية والموضوعية في التفسير.قال(ص): «تعلموا القرآن، واقراوه، واعلموا انه كائن لكم ذكرا وذخرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم، فانه من تبع القرآن نهج به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زج به في قفاه حتى يقذفه في جهنم» ((219)). وقال(ص): «انما اتخوف على امتي من بعدي ثلاث ضلال: ان يتاولوا القرآن على غيرتاويله، ويتبعوا زلة العالم... فاما القرآن فاعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، واما العالم فانتظروا فئته، ولا تتبعوا زلته...» ((220)) ويؤكد الباحثون ان ما ورد عن ائمة اهل البيت(ع) من روايات ان اناسا حرفوا القرآن، انما كانوا يقصدون بذلك تحريف معناه، وليس تحريف كلماته وحروفه من الزيادة والنقصان، كما تصور البعض.
وهذا التحريف للمعنى القرآني هو الذي تحدث عنه القرآن بقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه).
قال الشيخ الطوسي في تفسير هذه الاية(يعني يغيرونها عن تاويلها)((221)). ان المشكلة الكبرى في التفسير، او الاخذ من القرآن، تكمن في خطا المفسر، اواخضاع الاية لرايه، وكم هو دقيق تشخيص الامام علي(ع) لهذه الظاهرة عندما قال: «يعطف الهوى على الهدى اذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الراي على القرآن اذاعطفوا القرآن على الراي» ((222))، وتنتشر هذه الظاهرة في الفكر العقيدي بشكل اوضح. اذ عبثت الاتجاهات الباطنية، او آراء بعض الفلاسفة والفرق الكلامية في الدلالات القرآنية.
ومن المفيد ان نذكر عينات من التفسير الذي يتحكم فيها راي المفسر بدلالة الاية.. من تلك العينات تفسير ابن عربي الباطني لقوله تعالى: (...واخذهم الربا وقد نهواعنه).
قال: (واخذهم ربا فضول العلوم، كالخلاف والجدل واللذات البدنية، والحظوظ التي نهوا عنها...)((223)).
وفسر قوله تعالى: (رب اجعل هذا البلد آمنا...) فسره بقوله: (اي، بلد البدن آمنا من غلبات صفات النفس، وتنازع القوى وتجاذب الاهواء)((224)). وكتب الشيخ محمد الغزالي ناقدا للذاتية المفسرة يقول:
(كنت انظر احيانا الى طريقتنا في فهم القرآن، فكنت اجد انها طريقة تستحق التامل،بمعنى: انه لكي نقول: ان العمل الذي نؤديه هو من صنع اللّه، استدللنا بالقرآن (واللّهخلقكم وما تعملون) وانتزعنا هذه الاية من السياق كله لكي تدل على مذهب اهل السنة: ان العمل مخلوق للّه، اونسينا ان هذا الكلام لو صح، ما كان عبدة الاوثان مسؤولين، لانهم اذا كانوا مخلوقين للّه، وشركهم ووثنيتهم مخلوقة للّه، فما عليهم من ذنب، لكن نحن اخذنا ظاهر الاية وقطعناها من سياقها، من قبل ومن بعد، وجعلناها دليلا لراي باطل.. انها آفة التجزيء)((225)).
وكتب الفقيه المفكر الاسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر نقدا رافضا للتفسيرالباطني الذي انكر حجية الظهور لتمرير آراء خاصة. قال(رحمه اللّه): «ذهب جماعة من العلماء الى استثناء ظواهر الكتاب الكريم من الحجية، وقالوا بانه لايجوز العمل فيما يتعلق بالقرآن العزيز الا بما كان نصا في المعنى، او مفسرا تفسيرا محددا من قبل النبي(ص) او المعصومين من آله عليهم الصلاة والسلام» ((226)).
ثم رد هذا الراي الذي اعتمد روايات ضعيفة السند بل مكذوبة، كما قال بان رواتها في الغالب من ذوي الاتجاهات الباطنية المنحرفة على مايظهر من تراجمهم((227)).
ثم قال(رحمه اللّه)، وثانيا: «ان هذه روايات معارضة للكتاب الكريم الدال على انه نزل تبيانا لكل شيء وهدى وبلاغا، والمخالف للكتاب من اخبار الاحاد لايشمله دليل حجية خبر الواحد، كما اشرنا سابقا» ((228)).
كتفسيرهم لقوله تعالى: (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)((229)).
بان الخمر والميسر والانصاب والازلام هي اسماء لاشخاص يدعو القرآن لاجتنابهم، وليست هي الحقائق الدال عليها ظاهر اللفظ.
وتعريف التفسير بدقته العلمية وبانه: (الكشف عن مراد اللّه تعالى من كتابه العزيز).
يؤكد لنا ان تدخل الذاتية يحول دون الكشف عن مراد اللّه تعالى، وبالتالي ليس ماتنتجه الذاتية هو تفسير لكتاب اللّه، ولا كشف عن محتوى الاية، بل هو راي المفسر، اوالباحث، او المستدل، وتحميله لرايه على الاية.
وحين تقرا التفاسير والاراء العقيدية والفقهية والفلسفية والاخلاقية وغيرها نجدالمذهبية الذاتية ظاهرة واضحة في فهم القرآن وتفسيره حتى صار التفسير والاستدلال بالقرآن عند البعض هو استدلال على مايؤمن به، وكان القرآن انزل ليؤيد رايه واتجاهه المذهبي.
ان المنهج السليم في فهم القرآن واكتشاف محتواه. هو المنهج العلمي الذي يتعامل مع القرآن كما يتعامل الباحث في مجال الطب والفيزياء والكيمياء. انا وان كنا نميز بين الاكتشاف المختبري في مجال الابحاث المادية، وبين مجال الاكتشاف في العلوم الانسانية من صعوبة استبعاد الذات استبعادا مطلقا، الا ان امام الباحث في القرآن منهجاعلميا للاكتشاف والاستنباطي حافظ على مساره في البحث الموضوعي، اذا ما استفادمن المبادئ العلمية من غير عصبية ولاانحياز.
اسباب النزول اسباب النزول مصطلح من مصطلحات علوم القرآن والدراسات القرآنية، ويعني: السبب الذي من اجله نزلت الاية لتتحدث عنه ولتعرفه، او تبين حكمه، او ظروفه وعناصره، فان آيات القرآن الكريم نزلت خلال ثلاثة وعشرين عاما، وكان نزولها على قسمين:
1- قسم نزل ابتداء من غير حدث في محيط الدعوة البشري، وهو معظم آيات القرآن الكريم، وفي مختلف شؤون العقيدة والعبادة ونظام المجتمع... الخ.
2- قسم من آياته المباركة نزل بسبب الحوادث والوقائع التي حدثت في محيط الدعوة، او بسبب سؤال من بعض الافراد، كقوله تعالى: (قل هواللّه احد× اللّه الصمد× لم يلد × ولم يولد × ولم يكن له كفوا احد)، فسبب نزولها كما ورد في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه(ع) قال: «ان اليهود سالوا رسول اللّه(ص) فقالوا:انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لايجيبهم، ثم نزلت (قل هو اللّه احد) الى آخرها»((230)).
وكقوله تعالى: (قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى اللّه واللّه يسمع تحاوركما ان اللّه سميع بصير)((231)) وسبب نزولها كما يذكر الواحدي النيسابوري ((232)) انها نزلت في خويلة بنت ثعلبة عندما ظاهر منها زوجها اوس بن الصامت.
عن عروة قال: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء اني لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها الى رسول اللّه(ص) وهي تقول: يارسول اللّه ابلى شبابي ونثرت له بطني حتى اذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني،اللهم اني اشكو اليك، قال: فما برحت حتى نزل جبرئيل(ع) بهذه الايات (قد سمع اللّه قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي الى اللّه).
وكقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء اللّه...)((233)) وسبب نزولها كما اخرج الطبرسي في الرواية ان النبي(ص) سئل عن قصة اصحاب الكهف، وذي القرنين فقال:
اخبركم عنه غدا، ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه اياما حتى شق عليه، فانزل اللّه تعالى هذه الاية يامره بالاستثناء بمشيئة اللّه تعالى((234)). وفي تفسير العياشي((235)) عن عبد اللّه بن ميمون عن ابي عبد اللّه(ع) عن علي بن ابي طالب(ع) قال: اذا حلف الرجل باللّه فله ثنياها الى اربعين يوما، وذلك ان قوما من اليهود سالوا النبي(ص) عن شيء فقال: ائتوني غدا ولم يستثن حتى اخبركم، فاحتبس عنه جبرئيل اربعين يوما ثم اتاه وقال: (ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء اللّه واذكر ربك اذا نسيت).
وقوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه...) ((236)) وسبب نزولها روى السدي عن ابن عباس قال:
نزلت هذه الاية في علي بن ابي طالب حين هرب النبي(ص) عن المشركين الى الغار ونام علي(ع) على فراش النبي(ص)ونزلت الاية بين مكة والمدينة وروي انه لما نام على فراشه قام جبرائيل عند راسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل ينادي بخ بخ، من مثلك يا ابن ابي طالب، يباهي اللّه بك الملائكة ((237)).
وكية المباهلة: (فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونسائكم وانفسناوانفسكم...)((238)) وسبب نزولها: «قيل: نزلت الايات في وفد نجران العاقب والسيدومن معهما، قالوا لرسول اللّه: هل رايت ولدا من غير ذكر فنزل: (ان مثل عيسى عند اللّهكمثل آدم...) الايات. فقراها عليهم، عن ابن عباس وقتادة والحسن، فلما دعاهم رسول اللّه الى المباهلة استنظروه الى صبيحة غد من يومهم ذلك فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الاسقف:
انظروا محمدا في غد فان غدا بولده واهله فاحذروا مباهلته،وان غدا باصحابه فباهلوه، فانه على غير شيء، فلما كان الغد جاء النبي(ص) آخذا بيد علي بن ابي طالب(ع) والحسن والحسين(ع) بين يديه يمشيان وفاطمة(ع) تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم، فلما راى النبي(ص) قد اقبل بمن معه، سال عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه وزوج ابنته، واحب الخلق اليه، وهذان ابنا بنته من علي(ع) وهذه الجارية بنته فاطمة، اعز الناس عليه، واقربهم الى قلبه، وتقدم رسول اللّه(ص) فجثا على ركبتيه، قال ابو حارثة الاسقف: جثا واللّه كما جثا الانبياء للمباهلة، فكع((239)) ولم يقدم على المباهلة، فقال السيد: ادن يا ابا حارثة للمباهلة، فقال:
لااني لارى رجلا جريئا على المباهلة، وانا اخاف ان يكون صادقا، ولئن كان صادقا لم يحل واللّه علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء، فقال الاسقف: ياابا القاسم انا لانباه لك، ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهص به، فصالحهم رسول اللّه(ص) على الفي حلة من حلل الاواقي، قسمة كل حلة اربعون درهما فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا، وثلاثين فرسا، ان كان باليمين كيد، ورسول اللّه ضامن حتى يؤديها، وكتب لهم بذلك كتابا.
وروي ان الاسقف قال لهم: اني لارى وجوها لو سالوا اللّه ان يزيل جبلا من مكانه لازاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبق على وجه الارض نصراني الى يوم القيامة.
وقال النبي: والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلهم. قالوا: فلما رجع و فدنجران لم يلبث السيد والعاقب الا يسيرا حتى رجعا الى النبي، واهدى العاقب له حلة وعصا وقدحا ونعلين واسلما((240)).
وكالايات التي نزلت تتحدث عن معارك بدر واءحد وحمراء الاسد وحنين وغزوات اخرى.
ولاسباب النزول اثر كبير في تحديد معنى الاية وتفسيرها، ففهم سبب النزول يعين على فهم المعنى والمراد القرآني.
ومن الجدير ذكره هو ان آيات القرآن النازلة في حدث معين لايختص حكمها بذلك الحدث، ما لم يكن منحصرا به، بل يعتبر ذلك الحدث مثالا ومصداقا لها، لذلك جاءت القاعدة التشريعية:
(العبرة بعموم المعنى لابخصوص اللفظ) او: (خصوص المورد لايخصص الوارد).
ولقد ثبت الامام الباقر (ع) هذا المبدا عند تفسير قوله تعالى:
(ولكل قوم هاد).
فقد قال: «علي: الهادي، ومنا الهادي، فقلت (السائل) فانت جعلت فداك. قال: صدقت: ان القرآن حي لا يموت، والاية حية لاتموت، فلو كانت الاية اذا نزلت في الاقوام وماتوا ماتت الاية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين» ((241)).
واوضح الامام الصادق(ع) بقوله لعمر بن يزيد لما ساله عن قوله تعالى: (والذين يصلون ما امر اللّه به ان يوصل): «هذه نزلت في رحم آل محمد(ص) وقد تكون في قرابتك، فلا تكونن ممن يقول للشيء: انه في شيء واحد»((242)).
و روي عنه(ع) قوله: «ولو ان الاية اذا نزلت في قوم ثم مات اولئك ماتت الاية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري اوله على آخره، ما دامت السماوات والارض، ولكل قوم آية يتلوها منها من خير او شر» ((243)).
وهكذا يتحدد هذا المبدا التشريعي والفكري العام تشخيصا لمراد اللّه تعالى من كتابه. وتوضيحا لخلود الشريعة، وامتداد احكامها.
وهكذا يتضح ان المفسر يحتاج الى معرفة سبب النزول ليفهم المعنى.
الجري والانطباق واسباب النزول:
ومن خلال قراءة ما ورد عن ائمة اهل البيت(ع) من ان الاية جارية باحكامها ومفاهيمها ما لم تكن خاصة في ذلك المورد ما دامت البشرية قائمة على هذه الارض، وان كانت قد نزلت بسبب حادثة معينة، فمن الضروري ان نميز عند التفسير بين سبب النزول وبين الجري والانطباق وبين علة التشريع.
فان سبب النزول: هو الحادثة التي نزلت الاية بسببها، وان الجري والانطباق يعني ان حكم الاية منطبق على تلك الحادثة، او ذلك الشخص... الخ باعتباره احد المصاديق، وكثيرا ما وقع الخلط بين سبب النزول والجري والانطباق عند بعض المفسرين. وهذا الجري والانطباق يحصل في الايات ذات السبب والاخرى التي نزلت من غير سبب للنزول.
وان علة التشريع: هي ما شرع الحكم من اجله: كعلة الاسكار في تحريم الخمر.
ومما ينبغي التعريف به في هذا المبحث هو ان اسباب النزول هي حوادث تاريخية، وان رواية هذه الحادثة وصل الينا عن طريق الرواة، ولابد لنا قبل قبول الخبر من التوثق من ناقله، لاسيما وان يد التحريف قد امتدت الى هذه المسالة الخطيرة من تشخيص الحقائق، وبيان معاني القرآن، ومصاديق المعنى في المجتمع الانساني.
فمن امثلة ذلك الاية الكريمة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رؤوف بالعباد).
فانها نزلت في بيان فضل الامام علي(ع) لمبيته على فراش النبي ليلة الهجرة.
في حين جاءت روايات اخرى تذكر ان هذه الاية نزلت في صهيب او في غيره. ويؤكدالمحققون من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم انها نزلت في علي(ع). من ذلك نفهم ان سبب صرفها عن السبب الحقيقي لنزولها (في علي(ع)) هو ما دخل في الروايات من دس وتحريف ووضع.
واذا لابد لنا من التحقيق في سبب النزول قبل قبول ما ينقل.
فان ذلك يساهم في فهم المعنى الحقيقي وتشخيص المراد.